الثلاثاء، 14 يونيو 2011

الحب في الوقت الضائع ...


الحب في الوقت الضائع ...

لم أتخيل نفسي يوماً بأني سأعيش بدون حب .. أحببتها أكثر مني .. لكني لم أجرؤ على البوح لها .. ولم تدري هي بحالي وأشواقي .. فهل يا ترى يموت هذا الحب في ذروة إشتعاله أم ماذا ؟



سألها بفضول وهي يربت على شعرها الأسود الجميل المنسدل بين كتفيها كشلال نهر : ما اسمكِ يا صغيرتي ؟قالت ببراءة الأطفال وهي توزع نظراتها في أنحاء وجهه قبل أن تركض بعيداً : اسمي أمل .
شيعها بنظراته الحزينة وشبح ابتسامته يذوي على شفتيه كمصباحٍ نفذت طاقته .. ومن بعيد لوحت له بيديها الصغيرتين وضحكات طفولتها تملأ المكان , وهو ينادي عليها من بعيد : اخبريني ابنة من أنتِ يا أمل ؟ .. لم تسمع نداءه ومضت تركض بعيداً .. مضى يركض خلفها بحثاً عنها لكنها كانت قد اختفت في أزقة المدينة .. يا لسخرية القدر منه حين بعث اليوم في طريقه هذه الطفلة الصغيرة والتي كانت تشبهها تماماً كأنها قطعة مصغرة منها , وزاد الأمر غرابة أنها تحمل ذات الاسم ..



اشتعل في نفسه الحب القديم والذي ما خمدت جذوته رغم مضي خمسة عشر عاماً فتهالك بجسمه المثقل بالمشاعر والأحاسيس على أقرب كرسي وجده في قهوة رثة كانت هي الأقرب إلى قدميه في ذلك الشارع القديم .. ومع فنجان قهوته شرد بذهنه إلى هناك.
تلك القرية الهادئة والساحرة بالفتنة والجمال رغم الفقر والجهل والمرض الذي يخيم بين جنباتها كان (صادق) طالباً في الثانوية العامة مختلفاً عن أقرانه من الشباب .. فقد كان له عالمه الخاص به والذي يصعب الاقتراب منه .. جمع بين الأخلاق والعفة والذوق والخجل والانطواء والخيال والرومانسية والعاطفة المتوهجة .. نشأ يتيماً من أبيه وعاش على هذه الحقيقة المرة والتي تركت في نفسه فجوة لا تُسَد عبر الزمن .. ولم يكن يتمه أكثر ألماً وقهراً من قسوة أهله وظلم أخوانه .. لكنه كان يجد في خلوته الصغيرة من ناحية بيتهم القديم الذي لم يترك لهم أبوهم سواه بعض العزاء , وكان قلمه هو رفيقه الذي لا يفارقه والشعر هو الأقرب إلى قلبه .. وصديقه المميز (نادر) الذي كان نادراً ما يفارقه أو يغيب عنه .. كيف لا وهو صديق طفولته وسامع شكواه ونجواه .. لكنه لم يحدثه عن (أمل) .. فقد كان يخبئ سر حبها في قلبه خوفاً من نفسه عليها .. كالطفل الذي يتعلق قلبه بلعبة من ألعابه فيخفيها عن نفسه وأقرانه ..



(أمل) تلك الأنثى التي كانت أجمل بنات قريته وأكثرهن أخلاقاً , جمعت بين كل صفات الأنثى التي يحلم بها , غير أنها من أسرة غنية وأبوها رجل متعجرف ومغرور يصعب التعامل معه ويرى نفسه فوق الآخرين , لم تكن لأمل سيئة سوى هذا الأب الغريب الأطوار , لا يدري كيف نبتت هذه الزهرة الجميلة الفواحة بالأريج والشذى بين هاتيك الأشواك .. كيف جاءت هذه الملاك الطاهر من ذلك الشيطان الرجيم .. ولا يدري كيف أحبها هو بجنون .. كانت هاجس أحلامه ومنامه كل يوم وكل ليلة .. إنها في نظره أمله في زمن اليأس , وفرحته في زمن الحزن , وسعادته في زمن الهم والألم , علق عليها قلبه وآماله وأحلامه , عصف حبها بقلبه لكنه لم يجرؤ أن يبوح لها بحبه وشوقه .. منعه فقره وغناها .. وكرهه لأبيها .. وكره أبوها له .. ورفض أمه القاطع لها .. لكنه أرادها وبشدة .. وصمم على الفوز بحبها وقلبها .. رغم كل الصعوبات التي كانت تكتنفه .. والأشواك التي تكتنف دربه إليها .. 
وكان كلما ملت نفسه من كثرة الدروس وضغطها جالت بخاطره ذكراها فاشتعلت همته وطموحه .. كان يرغب أن يتقدم لخطبتها بعد أن يحصد التفوق والعلم .. أراد أن يجاهد كل الظروف والعوائق في سبيل حبه الذي كان ينمو في قلبه كل ثانية ويتجذر في شرايينه كل لحظة حتى بات يصعب على الاقتلاع والتناسي ..

دمعت عينا (نادر) فرحاً حين زف إليه (صادق) خبر تفوقه الذي أراده ليبدأ بعده مرحلة إقناع والدته في خطبة أمل .. حتماً سيفوز بها هذه المرة فقد قرر العمل على اصطياد قلبها وحبها .. أعلن في نفسه التفرغ الكامل من أجلها .. فقد بات حلمه قريباً من أن يتحقق .. سيكون موقفه الآن أقوى من قبل أو هكذا خُيِل إليه .. وبدأ يشن حملة من الإقناع لأمه والتي بدأت ثورة رفضها تهدأ قليلاً .. 
- حتماً سأفوز هذه المرة وحلمي بات قريباً .. هكذا ترددت في نفسه قبل أن يسبح في نوم عميق ..


وكان لقاء .. وأي لقاء عصرته السنون العجاف , وأستبد به الحرمان والألم لا يمكن أن تتصوره العقول ولا القلوب ولا تستطيع حكايته الأحلام.- أحبكِ ..قالها لها وهو يتأمل فتنتها البالغة في وله وشغف .. يا الله ما أجملها .. ما أجمل عينيها الواسعة كعيني المها وكأن الشاعر الذي قال :إن العيون التي في طرفها حورٌ * قتلننا ثم لم يحيينَ قتلانا .. كأنه كان يعنيها هي وحدها دون النساء .. لوحة جميلة أبدعها الله في هذه الأنثى وكأنها حوراء من حور عين الجنة أنزلها في الدنيا لتكون جنة هذا البائس المسكين .. مرت عيناه على أجزائها الفاتنة أمامه .. لم يكن يمانع عيناه من إلتهام جمالها غير خصلات شعرها المجنون المتطايرة على أطراف خديها البديعتين بلون الزهر ..- اشتقتُ إليكِ ..قالتها على خجل زادها فتنة وجمالاً .. تراقصت على شفتيها كقصيدة شعر انسكبت كاللؤلؤ من بين شفتين جمعت بين سحرها وأنوثتها ..صافحت كلماتها أذنيه بحميمية بالغة الأثر .. فنزلت على قلبه كوقع المطر على أرض بوار طال شوقها للماء .. فاحتضنت أرواحهما في حب بكى منه القمر .. وردد وقع حداه حفيف الشجر .. وتناثرت المشاعر بين حبيبين قسى عليهما الناس والقدر ..
كان يود لو يضمها إلى صدره ويودعها بين أحضانه إلى الأبد .. ويرسم على وجنتيها معالم الحب والقبل .. ويتيهان معاً بين النجوم .. بين السحاب .. فوق القمر .. في عالم جديد يصنعانه هما من وحي الجمال والدلال الذي لفهما تلك الساعة .. وهكذا كان ..

لم يدرِ إلا بمنبه الفجر يوقظه على صوت أذان الفجر .. وانهمرت كلمات الأذان تغسل أذنيه وتطهر قلبه وتنظف روحه .. وربما كانت تلك بشارة له بقرب اللقاء , صلى الفجر ودعا الله في سجوده بأن يجمع بينهما في الدنيا .. وكان على يقين بأنهما سيلتقيان ..


- أنا ؟ ! .. أنا لا أحبها إنك واهمٌ يا صديقي .قالها (صادق) وهو يحاول أن يبدو متماسكاً ومبتسماً وكأن الكلمة تلك لم يكن له أي وقع عليه وأي أثر ..- أحبها منذ زمن بعيد .. وأردت اليوم مصارحتك .. لأني كنت أتوقع أنك تقصدها حين تحكي لي عن حبك لتلك الأنثى التي كتمت عني اسمها وحياتها .. - ليست هي يا صديقي .. لا عليك امضي لخطبتها , ما دمت قد رتبت كل شيء لذلك .. وسأدعو لك الله بالتوفيق .. امضي والله معك ..
تألم (صادق) وهو ينطق هذه الكلمات .. وفي نفس الوقت لم يكن يشأ أن يقف حجر عثرة في طريق مستقبل صديقه (نادر) .. لقد تخلى عن حبها من أجل حبه لصديقه وعشرته وأخوته معه منذ الطفولة .. ولم يكن يرد لها إلا السعادة .. ويخشى أن لا تجد هذه السعادة معه وربما تجدها مع (نادر) .. خاصة وأن (نادر) هو ابن خالها ولم تكن في طريقه العراقيل والعوائق المانعة مثله ..

بعد أيام رحل (صادق )عن القرية للدراسة في المدينة .. لم يكن يتحمل أن يرى أحلامه تتحطم أمامه كزجاج منثور .. رحل بجسمه بعيداً لكن قلبه ظل هناك .. علم برفضها خطبة صديقه (نادر) لكنه لم يكن من الذين يبنون سعادتهم على أنقاض سعادة الآخرين , فكيف إذا كانت على حساب الأخوة والصداقة والمحبة والعشرة .. ورغم ذلك لم يكن يسأل عنها من أجل أن ينساها .. وأنغمس في الحياة ومشاغلها حتى النخاع كي لا تطرق ذاكرته كل ليلة حين يخلد إلى النوم .. أراد تصفية شرايينه من حبها ونبضاته من الشوق والحنين لها .. وحصد التفوق والمال والمركز والنفوذ الذي طالما داعب خياله من أجلها .. كان كمن يركض هرباً من طيفها .. كمن يتخلص من شيطان مس أصابه من ذكراها .. لكنه كان يراها في كل أنثى تداعب خياله المرهف وحسه الشاعري الرقيق .. تزوج بأخرى كي ينساها .. وفي ليلة زفافه وصلته رسالة منها .. كان فيها سطران :- أُحبكَ من زمنٍ بعيد .. ولم أجرؤ على البوح لكَ .مسكينة لم تكن تعلم أنها ليلة زفافه .. ولم يكن يعلم أنها تحبه وتخفي حبه مثلما كان هو .. دمعت عيناه وهو يتأمل حروف عباراتها في عشق طال كتمه وكبته .. واحتضنها بشوق حمل مرارة السنين , وحرمان الليالي والأيام .. قبلها بكل شغف وانسكبت الدموع تروي حقول تلك السطور .. قبل أن يعصرها بين كفيه ويفتتها في ألم وهو يردد :- يا لسخرية القدر ! .. فُزتُ بحبها .. ولكن متى ؟ .. بعد فوات الأوان !!..
إنه الحب في الوقت الضائع .










يوم الاثنين
15-03-2011 م

0 التعليقات: