الثلاثاء، 14 يونيو 2011

الزمن الأسود


الزمن الأسود ( قصة واقعية)

كل شيء هادئ في تلك القرية الوادعة التي ألبسها الظلام رداءً أسوداً أبدعته يد القدرة الإلهية ... الأكواخ الريفية تنام في ظلمة الليل وقد أعياها تعب النهار وحرارة الشمس ... وسكون الليل يخيم على تلك الحقول المتناثرة على قمم الجبال وهناك في أعلى القرية بيت يدور فيه حديث القلوب ويتعالى فيه وجيب الصدور وتتهامس النفوس قبل أن تتهامس العيون بحديث يقطر شوقاً ومحبة ولهفة للقاء ذلك القريب البعيد . القريب إلى أرواحهم والبعيد عن ناظرهم ... وتقودنا نسمات الهواء المعطرة بشذى الحقول عبر النافذة المفتوحة إلى ذلك المنزل المتواضع ... ويتنفس ذلك الشيخ الطاعن في السن الذي أفنى شبابه في سبيل أبنائه دفعة كبيرة من الهواء قبل أن يقول :

- كم يتغير الإنسان بتغير الأيام والأعوام مثلما تتغير طبيعة الحياة بتغير الفصول والأزمنة , فبالأمس كنا نرتدي زى الشباب , كانت آمالنا هي كل شيء في الحياة , واليوم بعد أن أفل نجم الشباب وآذنت شمس الحياة بالمغيب لا نسعد إلا أذا رأينا فلذات أكبادنا سعداء في هذا الوجود .

تتابعت الزفرات الحارة من صدر الأم العجوز وهي تقول بصوت لم تثقله السنوات الثقال :
- كما أن الفلاح يسعد حين يرى محصوله الوفير بين يديه مختلط بقطرات عرقه المكدود فكذلك نحن لا نسعد إلا عندما نرى أبناءنا وقد حققوا ما يطمحوا إليه من آمال .

هز الشيخ الكبير رأسه بتثاقل وهو يقول بنبرات متهدجة :
- للأسف يا عزيزتي لم يبق لنا من أبنائنا إلا هذا الذي نتحرق شوقاً إلى لقائه وهذه الصغيرة .

قالها وهو ينقل نظراته الزائغة إلى تلك الصبية ذات العشر سنوات وهي تمسح قطتها النائمة في أحضانها في ود بالغ .

تابعت الأم ما انقطع من عقد الكلام :
- غداً سيأتي ولدنا الوحيد بعد غيابه الطويل للدراسة , وسيغسل ما عانيناه من الكدح والألم في سبيل نجاحه بماء الفرح والسعادة وسنكون سعداء بسعادته , أليس كذلك ؟

تألقت عينا الأب ببريق النصر وكأنه قائد منتصر في معركة حاسمة وهو يقول بسعادة تقطر من كلماته وتسيل من نظراته :
- يسرني أن نبيل سيأتي غداً والشهادة في يمناه والفرحة تسبقه فتعانقني روحه قبل أن يعانقني جسده ويهتف بي كالمستغيث وعقارب الشوق تنهش في فؤاده " أبي " فأهتف بجوارحي ومشاعري كلها قبل أن تهتف لساني " ولدي " , وأضمه إلى صدري في عناق حار لم يطفئ لهيبه الغياب الطويل , وأطبع على خديه قبلاتي الدامعة وأرسم على وجنتيه معالم الحب الخالد .



ويبلغ به التأثر مبلغه مع لهاث كلماته وزفرات حروفه وتسيل دموع السعادة من قلبه الذي يرقص فرحاً وطرباً فتقطر من عينيه متتابعة , وتنهمر الدموع غزيرة من عيني الأم على وجنتيها الشاحبتين , ويثقل الصمت البليغ لسانها فيكبله بقيوده الصامتة , ويبحث عقلها المضطرب عن مفردات اللغة فيظل الطريق , ويسقط حائر الخطى في دوامة الحيرة بعد أن أعياه التعب والشوق فتنهض الروح لتحقق ما عجز عنه العقل وتنطق دون كلام :
- آه ما أقسى الفراق وما أعذب اللقاء ... أحبك يا ولدي أكثر من الحب ذاته , وأتوق لضمك إلى صدري وأحتويك في قلبي للأبد فلا تعذبني مرة أخرى بغيابك الطويل .
- أمي .. أبي .. لماذا تبكيان ؟ هل أغضبتكما بشيء ؟ ... هل ؟؟

قالت عبارتها الممزقة في براءة الأطفال وهي تضع قطتها النائمة جانباً وتقفز إلى أمها في خفة وتغرق في أحضانها ثم ترفع رأسها إلى أبيها فتقفز إلى أحضانه وهي تمسح عبراته بأناملها الصغيرة وتقول في توسل طغى على ملامحها :
- لا تبكي يا أبي .

ابتسم الوالد وهو يتحسس شعرها الفاحم قائلاً :
- ليست دموع كما تظنين يا صغيرتي .

ثم استطرد وهو يمطرها بالقبلات الحنونة :
- هل ستنامين الآن يا هدى ؟

قالت في دلال :
- بعد أن يأتي نبيل .
- سيأتي في الصباح .

همت أن تقول شيئاً لكن الكلمات ظلت حبيسة في حلقها إثر سماعها تلك الطرقات المتتالية على باب المنزل فقفزت مسرعة وهي تصيح قائلة :
- لا بد أنه نبيل .

فتحت الباب في لهفة لترى القادم الجديد الذي طال غيابه فابتسمت وهي تصافحه وتقبله في شوق ولكنه ظل في مكانه جامداً وكأنه تمثال لا يحمل من معاني الحياة شيئاً فخفت صوت قبلاتها وهي تراه لا يأبه لشأنها وتراجعت كالمذعورة وعيونها ترسل إليه عتاباً طفولياً , ثم غابت في المنزل لتزف البشرى إلى والديها وهو يتبعها بخطوات بطيئة ثقيلة بثقل السنين التي غابها إلى أن صار على قيد خطوات من والديه أسرعت الأم إلى لقائه وهي تضمه في شوق إلى صدرها وتقافزت من عينيها دموع السعادة , لكنها كانت في عالم وهو في عالم آخر فأنكرت دقات قلبه على صدرها وتراجعت مذعورة عندما دفعها بيديه جانباً فأجهشت بالبكاء مرة أخرى ولم تكن هذه المرة دموع السعادة وإنما كانت دموع الحزن , وأما الوالد فإنه لم يخفَ عليه ما رأى ولكن شوقه غلبه , وفي مثل هذه المواقف بالذات كثيراً ما تتغلب عاطفة الإنسان على عقله , وهذا ما جعل الوالد يصيح كالطفل :
- ولدي ... نبيل ... أين أنت يا ولدي ؟ لتمسح جراحي وتطفئ لهيب شوقي إليك .

واندفع نحو ولده وهو يفتح ذراعيه ليحتضنه فاقترب منه أكثر وأكثر , والشوق يسبق خطواته والدموع تسبق عباراته والفرحة تسبق نظراته , ونبيل جامد في مكانه لا يتحرك , وفي اللحظة التي اقترب منه الوالد أكثر تحرك من مكانه ولكن لا ليعانق أباه وإنما ليتجاوز ذراعيه المفتوحتين له ويجلس على الفراش .
تجمدت ملامح الوالد وتصلب في مكانه وذراعيه ما زالتا مفتوحتين فأرجعهما إلى جانبيه في صمت ثقيل ثم انهار على اقرب مكان صادفه أمامه ليجلس قبالة ولده مباشرة وهذا الأخير يقول بعد صمت خيم على جو المنزل كأنه الموت :
- وجدت لك عملاً في المدينة ويجب أن نرحل سوياً إلى هناك الآن .. هل تفهم أيها العجوز العاطل ؟

بكت الصغيرة وشهقت الأم وهي تمسك على قلبها وتجمدت نظرات الوالد في حزن وأسى وهو يقول بصوت آتٍ من أعماق سحيقة :
- ما الذي تقوله يا ... يا ... يا ولدي .
عجزت لسانه عن نطقها بسهولة فوجد مشقة بالغة وهو يضغط على مخارج حروفها في ألم .
- يا لك من شيخ سخيف .. وجدت لك عملاً مناسباً في المدينة والى الآن لم تفهم ما أقول .. يا هذا أنا أتكلم بالعربية الفصحى , أفهمت الآن ؟
وبعد لحظة صمت كان وقعها أألم على نفس الشيخ من قسوة الفراق , قال بصوتٍ متهدج :
- ليكن الصباح إذاً .
- لا ستضيع الفرصة .
- ......................
- لا تضيع الوقت فالعمل مريح وسيغير من حالنا الكثير .
- حسناً فليكن ذلك .
ورحل الوالد وابنه في جوف الليل إلى المدينة وخلفا وراءهما ألف علامة تعجب واستفهام حملتها تلك القلوب الدامية في المنزل , وبعد طول صمت ثقيل حائر طوال الطريق الذي قطعاه بالسيارة التي نهبت الأرض نهباً في ظلمة الليل حتى وقفت لينزل منها الاثنان ويقطعا مسافة قصيرة سيراً على الأقدام إلى منزل في إحدى الأماكن شبه المنعزلة , ويقف الوالد يتأمل المنزل قبل أن يلجاه وهو يقول دون شعور :
- كم أتمنى أن يكون لك منزل أجمل من هذا يا ولدي .
فيضحك نبيل ملء شدقيه حتى كاد أن يستلقي على قفاه من شدة الضحك ويقول لأبيه :
- يا لك من غبي أحمق , كأنه منزلي بالفعل , وبمعني أدق هو منزل أحد الرفقاء .
- الرفقاء ؟ ماذا تقصد يا ولدي ؟
- ألم أقل لك أنك أحمق لا تفهم هذه الأمور , يا شيخ أنت لا تستحق الحياة ؟

قالها وهو يدفع أباه بيديه بقسوة بالغة إلى داخل المنزل .
- أنا لا استحق الحياة ؟ أبعد كل ما فعلته من أجلك تجازيني بالعقوق والشتائم ؟ سهرت الليالي الطوال على راحتك ودللتك كثيراً , بعت الغالي والرخيص ونمت ليالي وأيام طاوياً على بطني من الجوع لأرسل إليك بما يكفيك لتكمل دراستك , ولما حانت لحظة حصادي ما زرعت جئت لتلقي علي أقبح الكلام , هل هذا ما تعلمته يا ولدي ؟ مستحيل أن يكون هذا حقيقة .. مستحيل ...

كان الأب يهتف بكلماته وقد بلغ به التأثر مداه والعرق يتصبب على جبينه رغم برودة الجو ويده اليمنى تمسك على قلبه الذي كاد أن يشق صدره بضرباته القوية اللاهثة وصرخت كل خلية وكل عضلة وكل عضو في جسمه قبل أن تصرخ لسانه :
- أنا لا استحق الحياة بعد ..... ؟

ثم سقط على الأرض في ألم بالغ وهو يلهث بكلماته المتعثرة على لسانه :
- أتقتلني يا ولدي ؟ أهذا جزاء شقائي معك ؟ أهذا هو العمل المناسب الذي وجدته لذلك العجوز الأحمق الذي لا يستحق الحياة ؟ ........

وماتت الكلمات على شفتيه دون أثر من شفقة أو رحمة من نبيل وسقط الأب جثة هامدة دون حراك وردد المكان صدى الألم , وفي الصباح يعود نبيل وجثة والده إلى القرية التي عصف بها موت الوالد المفاجىء ويطلب دفن أبيه بسرعة مدعياً أن موت الفجأة هو الذي قضى عليه ويتم الدفن بالفعل بسرعة ويتنفس نبيل الصعداء فتقع عيناه على أمه المتشحة بالسواد والتي كانت منهارة تماماً وقد أفقدها الألم لغة الكلام فلا تجيب إلا بالدموع الغزيرة فقط , ثم ينتقل بصره إلى شقيقته الصغيرة والتي كانت تبكي بحرقة شديدة ولم تكد تراه حتى هربت إلى أمها وكأن شياطين العالم كله تطاردها وهي تقول معاتبة :
- هل أنت قتلت أبي ؟

فيصيح بحدة :
- لقد مات بالفجأة .
- بل أنت قتلت أبي أيها الحقير .

خرج من البيت مسرعاً ينقل خطواته العاجزة على الأرض المنبسطة ولكنها ضاقت عليه هذه المرة بما رحبت فأحس أن نظرات الكل تتبعه وهمساتهم تصل إلى أذنيه :
- قتل أباه ... قتل أباه .. قتل أباه ...

حاصرته العبارات في رأسه وعقله يصيح :
- قتلت أباك أيها القاتل الحقير .

وعادت عبارات أبيه إلى ذهنه في قوة وكأنها شريط كاسيت متتابع من الأحداث على هيئة عقد منتظم وترددت في رأسه آخر كلمة نطقها أباه :
- مستحيل أن يكون هذا حقيقة ... مستحيل .

لم يدري كم استمر في مشيته المتعثرة تلك والعيون القروية ما زالت تحاصره وتحملق فيه بقوة والصبية يشيرون عليه بأصابعهم :
- قتل أباه ... قتل أباه ... قتل أباه ...

وانطلقت ضحكته مجلجلة في الفضاء وتبعتها الدموع الباكية بغزارة تصرخ في ألم وضاق به العالم وأحس بالأيدي تمتد إلى عنقه لتقتص منه فتلفت حوله في ذعر فرأى الكون كله يشير إليه بأصابع الاتهام ووجد نفسه يردد قائلاً في صرخة عالية :
- لقد مات بالفجأة .
- لقد مات بالفجأة .

واصل مشواره الطويل فلم يستطع الهرب من دائرة الخوف وهو ما يزال يتلفت حوله والكون يشير إليه بأصابع الاتهام .
فيواصل سيره المجنون ...
نحو المجهول ...
نحو اللاشيء ...
نحو الجنون ...

قتل أباه فأفقده الله في الدنيا عقله ... فسبحان الله ما أعدله .

أنتهت بحمد الله وتوفيقه في تاريخ 30/09/1996 م

0 التعليقات: